سورة الأنعام - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{الحمد للَّهِ} تعليقُ الحمد المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال، وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته، لما مر من اقتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه، لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني، ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال، من قوله عز وجل: {الذى خَلَقَ السموات والارض} للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلالِه به باعتبار أفعالِه العِظام، وآلائِه الجِسام أيضاً. وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية، التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود، فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية، المنوطِ بها مصالحُ العباد في المعاش والمعاد؟ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق، منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار، من تعاجيب العبر والآثار، تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار. وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها، وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي.
{وَجَعَلَ الظلمات والنور} عطْفٌ على {خَلَق} مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما، داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد، فكما أن خلقَ السموات والأرضِ وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا، كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما، والجعلُ هو الإنشاءُ والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاء التكوينيِّ، وفيه معنى التقدير والتسوية، وهذا عام له كما في الآية الكريمة، والتشريعيَّ أيضا كما في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} الآية. وأياً ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأن يكونَ فيه، أوْ له، أوْ منه، أو نحوُ ذلك، ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأن يتوسَّطَ بينهما شيءٌ من الظروف لغواً كان أو مستقراً، لكن لا على أن يكونَ عُمدةً في الكلام بل قيداً فيه، كما في قوله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} وقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} وقوله تعالى: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} الآية، فإن كل واحد من هذه الظروف، إما متعلقٌ بنفس الجعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعولِه تقدّمت عليه لكونه نكرة، وأياً ما كان فهو قيدٌ في الكلام حتى إذا اقتضى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجعلُ متعدياً إلى اثنين هو ثانيهما، كما في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم} وربما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنه عمدةٌ فيه، وهو في الحقيقة قيدٌ بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً} حيث قيل: إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل، وقد أشير هناك إلى أن الذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم، أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول، وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة، وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله. وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس، ومشاهدتهم لها على التفصيل، وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين، وقوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد، المستدعي لاقتصار العبادة عليه، كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة، مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما تقضي ببُطلانه بديهةُ العقول. والمعنى أنه تعالى مختصٌّ باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شؤونه العظيمة الخاصة به، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه، ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه، أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ، مع كونِ كلِّ ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد، وكلمة {ثم} لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه، لا بعد بيانِه بالآياتِ التنزيلية، والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهم، من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجب أن يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع، فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك، والباء متعلقة بيعدلون، ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح، والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ، والمحافظةِ على الفواصل، وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلةَ اللازم، إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول، هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل. وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ {يعدلون} من العدول، والمعنى أن الله تعالى حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم، أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل لتحققه، مع إغفاله أيضاً، فجعلُ أهون الشرَّيْن عمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة، وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد، فكيف بالنظم التنزيلي؟ هذا وقد قيل: إنه معطوف على {خلَقَ السموات} والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه، ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه، لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ: الحمدُ لله الذي عدَلوا به، بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة، كأنه قيل: الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ، ثم من الكفرة الكفّرُ، وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز وجل حقُّه أن يكون له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة، ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه، وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود، كأنه قيل: الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده، تعسّفٌ لا يساعده النظام، وتعكيسٌ يأباه المقام، كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم، لا بيانِ نهايةِ إحسانِه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى، كما يقتضيه الادعاءُ المذكور، وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه، لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة، فما ظنُّك بما هو من روادفها؟ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين.


{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى، مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه، وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث، مع أن ما ذُكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها، كما ورد في قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} لما أن ملحَ النزاعِ بعثُهم، فدلالةُ بدءِ خلقِهم على ذلك أظهرُ وهم بشؤون أنفسهم أعرفُ، والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح، والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ، أي ابتدأ خلقَكم منه، فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدمَ عليه السلام، وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال: هو الذي خلق أباكم الخ، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس، وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس، مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه، حيث لم تكن فطرتُه البديعة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل، فكأن خلقَه عليه السلام من الطين خلقٌ لكل أحد من فروعه منه، ولما كان خلقُه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معياراً لانتهائها فَعلَ ما فعل، ولله درُ شأن التنزيل، وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} الخ، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} كما سيأتي، وقيل: المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف. وقيل: المعنى خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض، وأياً ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرتِه تعالى على البعث ما لا يخفى، فإن من قدَرَ على إحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة.
{ثُمَّ قَضَى} أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم {أَجَلاً} خاصاً به أي حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة، وكلمةُ {ثم} للإيذان بتفاوتِ ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} ولوقوعِه في موقع التفصيل كما في قول من قال:
إذا ما بكَى مِنْ خلفِها انصرَفَتْ له *** بشِقَ وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ
وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره، ولذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو {عِندَهُ} مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك: عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل: وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً، وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان، وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور، لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة، كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها، وقيل: الأجلُ الأول ما بين الحياة والموت، والثاني ما بين الموت والبعث من البرزخ، فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين: أجلاً من مولده إلى موته، وأجلاً من موته إلى مبعثه، فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر، وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجل البعث، وذلك قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} فمعنى عدمِ تغييرِ الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره، والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى، والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى، فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً، ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه، أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية، فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضحَ اقتداراً على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدةً، ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجلُ الباقين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ له أصلاً، لما رأيتَ مِنْ أن مَساقَ النظم الكريم استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى، فحيثُ أُريد به أحدُ ما ذُكر من الأمور الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون؟ ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ، وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولُهم: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار.


وقوله تعالى: {وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم، وقوله تعالى: {فِي السموات وَفِى الارض} متعلقٌ بالمعنى الوصفيِّ الذي يُنبىء عنه الاسم الجليل، إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل: وهو المعبودُ فيهما، وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةُ المبنيَّةُ على الحِكَم البالغة، فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله} وليس المراد بما ذُكر من الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك، بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله: *أسدٌ عليَّ* إلخ، ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه، فجَرى مَجرى جريءٌ عليَّ، وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفي الأرض، أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية، بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق، فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفسُ الوصف الذي اشتهر به، إذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به. ألا يُرى أن كلمة {عليّ} في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً، وقيل: هو متعلق بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل: وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما، وقيل: بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل: وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق، من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية، أو على تقدير القول. وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما، وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما، فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قولُه عز وجل.
{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال أو ما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كان من الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه، وتعليقُ علمِه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً، فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب، وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً، لكن لا لما قيل من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم، إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً، إذ المراد بما ذكره هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل، لا ريبَ في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً، بل لأن ما ذُكر من العلم غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له، وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً، لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له، بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف في البيانية. وقيل: هو خبر بعد خبر عند من يجوِّز كونَ الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} وقيل: هو الخبر، والاسمُ الجليل بدلٌ من {هو}، وبه يتعلق الظرف المتقدم، ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك: رميتُ الصيدَ في الحرَم، إذا كان هو فيه وأنت في خارجَه، ولعل جعْلَ سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لا يعزُب عن علمه شيءٌ منهما في أي مكان كان، لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً، وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية، وتخصيصُها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها، لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8